حكمة العريفة وقصائد العصيدة- قصة شاعر ناشئ

المؤلف: علي بن محمد الرباعي11.22.2025
حكمة العريفة وقصائد العصيدة- قصة شاعر ناشئ

تسلل الشاعر إلى بيت العريفة بخفة ورشاقة، وكأنه يمشي على أطراف أصابعه، ثم أرخى عمامته بلطف لتلامس أنف العريفة الغارق في نوم عميق، بينما كانت سيجارته مشتعلة بين أصابعه، وزهرتها أطول بكثير مما تبقى منها، فاستيقظ العريفة وفرك وجهه بكفه، وقال بدعابة: "الله يبرد نومك، ويطفئ ضوءك، ويغبّر جوّك، إن لم تكن قد أخذت قيلولة، فما أنت إلا كحشرة الصفيان، إذا احترقت الهضاب، لجأت تزحف وتبحث عن مأوى؟!"

انفجر الشاعر ضاحكًا وقال: "والله ما أتيتك إلا هربًا من الهم والغم والكدر، ومن جبروت (ثومة السفول)، لا رحمها الله ولا رحم أبوها (جارش الحبالى)".

رمى إليه العريفة بمسنده قائلًا: "اتكئ واسترِح"، ثم قام إلى الموقد، وتفقد عيدانًا بقي فيها أثر من نار الليلة الماضية، وقارب بين رؤوسها، وتناول المنفاخ، وبدأ ينفخ بشدة حتى كاد الدخان يقتلع عينيه من رأسه.

هزّ العريفة (القُطف) بعناية، ولكن حبات البُنّ لم تُصدر صوتًا، فأدخل يده فيه وبدأ يحسس رُكونه وزواياه، ثم أخرج خمس حبات، ونظر إلى الشاعر وتبسّم قائلًا: "سوف نُحمّصها ونسد بها جوعتي وجوعتك، وجوعتك مثل جحر الفأر، أي شيء يسدّها"، والشاعر يهزّ رأسه، وفي صدره ضيق وكتمان.

فقال العريفة: "لا تكتم الهم في صدرك، فتهلكك المخاوف وتغلبك الدموع، ارفع صوتك وتكلم يا أخي، إذا قصدتك في الصباح أو أتيتك في الليل، لا تتوقف القدور عن الغليان، والسمن يقطر من جدران بيت الشيخ، وكأن له غاية وهدفًا، تبوح أسرار البدو، ومن الفلق تبدأ البوح"، طلب منه العريفة أن يُعيدها، وعدّل عمامته وعقاله.

اقترب من المشهفة، ووضع فيها حبات القهوة، وبدأ يقلبها بالمحراك ذي الطرف المشروم فوق اللهب الذهبي، حتى فاحت رائحتها العطرة، ثم اقترب من المجرفة، ومسحها بالجُعال المُرَمّد، ونزع غطاء قدر صغير، واستخرج منه عجينة تملأ باطن الكف، ووضعها داخل المجرفة، وأسندها على الجمر، وبدأت العجينة تُصدر فقاعات، والشاعر يُدير نظره في البيت ثم سأل: "أين أم العيال؟" فأجاب العريفة: "ما أغلق الله بابًا إلا فتح مئة باب".

رُشقت الدلّة بالماء، ونضج القرص، فقلب العريفة المجرفة، وضربها في طرف الحِرانة فسقط القرص منها، نفضه بيده، ولحس باطن كفه من حرارة اللهب، وقسمه، وأعطى الشاعر الثلثين، واحتفظ لنفسه بالثلث، اعترض الشاعر، وحاول أن يُعطي العريفة من نصيبه، فقال العريفة: "يحرم عليّ ما يدخل فمي، عسى معه العافية".

ارتشف العريفة من فنجانه وقال: "يا رفيقي، أراك مهمومًا منذ أن أتيت، لم تُكمل فنجانك، ولا بلعت لقمتك، وخاطرك عكر منذ البداية؟" تنهد الشاعر وقال: "يا كبيرنا، ثومة السفول، نصبت للولد أرجوحة في فرع شجرة يجمعون تحتها دخان النار، وبقايا القهوة والشاي، وفلت حبل الأرجوحة وصفعته على وجهه، وتبلكم والله منذ مساء أمس وبشفاه متلاصقة، وعيونه تدور كالبُرْجون"، فبشّره العريفة وقال: "سوف يصبح ديكك صقرًا"، فقال: "أسألك بالله ماذا تقصد؟" قال: "لن يكمل ولدك أربعين يومًا، إلا وهو يُلقي القصائد بإبداع"، فقفز من مكانه وقبّل العريفة على جبينه، والعريفة يعطيه جبهته ليُقبّلها ويردد: "كرمت كرمت".

عاد ابن الشاعر من الوادي، ولاحظ أبوه أن الغنم ناقصة عند دخولها المراح، ثم أخرجها فوق الجناح، وأعاد عدّها بعصاه، فسأله: "أظن أن غنمك ناقصة؟" فأجاب الولد: "الذئب أكل شاتي، وأنا وراء الفرفر، والكلب في الفيء"، ومن شدة فرحه بالإبداع قال: "عساها فداك وفدى رأس الذئب".

انتقى أفضل الذبائح، وطلب من (ثومة السفول) أن تنصب القدر، وتناول خنجره من حزامه، وذبح وسلخ، وشوى الكبد والقلب للعريفة الذي جاء مع الشاعر الجديد، وتوافد المدعوون، الفقيه والمؤذن والجيران، فقال المؤذن: "ما دمت تقول أن ولدك سيصبح شاعرًا، فلنستمع إليه ونحكم"، فقال الأب: "أسمعنا يا صقر"، فوضع كفه اليمنى على أذنه، وأغمض عينيه، وقال: "ما أشبه حليل من سوّى الصقر يا عمّ بالديك، الصقر من فوق السحب يحوم، والديك فوق المزبلة يستعرض جناحه، ما الصقر مثل الديك كل له وظيفة"، فعلّق الفقيه: "ذقها يا ديكان، ناغشتاه وهباها بين عيونك"، فضحك المجلس، وسرى الليل في أحاديث ممتعة ومرح.

أصبح الشاعر يأخذ ولده معه إلى العريفة، ويوصيه أن يمدحه لكي يكرمه، وفي كل مرة يعشيهم عصيدة ويكثرون من الخير، ويعودون إلى بيتهم، ومع كل عودة تسأله أمه: "هل كساك العريفة، الله يكسيه بحية مرقطة؟" فيردّ بقصيدة مقابل العصيدة، فتقول: "عندكم يا ذا العريفة الذي لا يكسي إلا عيشًا"، وفي يوم ضاقت الأرض بما رحبت على الشاعر الناشئ، قال لأبيه: "والله ما عاد أتبعك عند أبي عصائد، لقد شبعت من عصائده، وما بيشبع من قصائدي"، فعلّق الأب: "ما تنبت ثومة السفول إلاّ بصلة"، وأضاف: "الله لا يوقعنا ولا يوقع بنا في ورطة".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة